النقوش العربية القديمة:
إعادة الكشف عنها وقراءتها في العصر الحديث
لإتاحة قاعدة بيانات سهلة الوصول أمام الباحثين من ذوي الاختصاص نظّم مركز دراسات الحضارة هذه المدونة الرقمية التي تهدف إلى جمع أهم المصادر الأكاديمية والبحثية التي تهتم بالنقوش العربية، توثيقاً وتحليلاً، وإتاحتها في مكان واحد على هيئة سجل رقمي يحتوي على تصنيفات متّصلة من حيث أنماط الكتابة وأمكنتها الجغرافية وتصنيفها اللغوي، وتتضمن إدراجات المدونة بجميع ما يمكن الوصول إليه من نقوش شبه الجزيرة العربية بأقاليمها الرئيسية الثلاثة (الجنوبية، الوسطى، الشمالية)، وفي أمكنة أخرى عُثر فيها على هذه النقوش و/أو نقوش مرتبطة بها سواء من حيث النمط أو التماثل أو الاستعارة والتأثر.
من مبدأ الرافدين شرقاً إلى أقصى مراكش غرباً تضمّ أرجاء الوطن العربي أقدم شواهد الحضارة في التاريخ، سواء من ناحية الآثار المعمارية وبناء الصروح، أو من ناحية التدوين واستخدام الكتابة، بدءاً بالسومرية، أولى مراحل انتظام اللغات الأفروآسيوية، وانتهاء بالفصحى، آخر مراحل تطوّر اللغة العربية واكتمالها. وضمن هذا المسار الحضاري العميم خلّدت النقوش الصخرية العربية القديمة ما كان سائداً من ظواهر لغوية واعتقادية واقتصادية وسياسية ومعاشية على امتداد آلاف السنين، وتعدّ الآن أهم مورد من موارد دراسة التاريخ القديم في شبه الجزيرة العربية.
لقد كانت شبه الجزيرة العربية على امتداد الأزمنة مصدراً للهجرات البشرية باتجاه الشمال، عندما جفت المستنقعات المدارية في العصر الحجري الحديث وأصبحت صالحة للاستيطان، وباتجاه شمال أفريقيا الذي حافظ على مناخه المعتاد وبيئته الخصبة، بعد أن تعرّضت الصحراء الكبرى للجفاف بالتزامن مع جفاف شبه الجزيرة العربية. غير إن شبه الجزيرة العربية كان أيضاً موئلاً مرجعاً عاد فاستقبل الهجرات البشرية في أزمنة لاحقة كلما اعتدلت التضاريس المناخية، كذلك الحال مع الصحراء الكبرى.
كانت سلسلة التوطّنات البشرية متعددة، وهي موضوع بحثي شائك ودائم يوليه ذوو الاختصاص اهتماماتهم ويعودون إلى دراسته كلما ظهر عامل جديد يدعو إلى إعادة البحث والتصنيف. إننا في الحقيقة لا نملك سجلاً كرونولوجياً كاملاً عن الحراك البشري من شبه الجزيرة العربية وإليها، بقدر ما نعتمد على سجل عام نعرف أنه في حاجة إلى التشذيب والتدقيق، وإشكاليات هذا الموضوع تُطرح بين حين وآخر، وهي تتكشّف ببطء وفق ما يعتمل من مستجدات أثرية وشواهد عملية.
ضمن هذا السياق الحضاري الأساسي نعثر في شبه الجزيرة العربية لا على الكتابات التي نصفها بالعربية القديمة فحسب، بل على شواهد أخرى أتت من الشمال (أي الرافدين) ومن الغرب (أي وادي النيل)، وجميعها أولى بأن توصف بالعربية لأنها لا تخرج عن التصنيف الأفروآسيوي، وإن اختلفت أنماط كتابتها وتدوينها، فهذه الاختلافات توجد بالمثل في نطاق شبه الجزيرة العربية أيضاً، بدءاً بالمسند حتى الجزم. ومن أمثلة هذه الشواهد أننا نعثر على نقوش مسمارية في شبه الجزيرة، كما في عُمان وحائل،1 ونقوش مصرية، كما في تيماء.2
لقد طفق الرحالة والمستكشفون الأوروبيون منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي يجوبون البلدان العربية، سواحل وصحارى وسهوباً وجبالاً، باحثين عن النقوش القديمة، ساعين إلى تحقيق هدف أساسي هو فك رموز الكتابات القديمة واستخدامها شواهد ماديةً تثبت ما ذكرته التوراة من أحداث وسير. غير إن مسار البحث والتنقيب لم يقد إلى هذا الهدف، بل انتهى إلى توفير مواد غزيرة أدّت – من ناحية أولى – إلى تطوير علم دراسة النقوش Epigraphy الذي كانت بداياته المنهجية الأولى قد ظهرت منذ القرن السادس عشر، وانتهت من ناحية ثانية إلى الكشف عن ذخائر حضارية كانت مطمورة تحت الرمال أو ملقاة على غير هدًى قلّما تثير انتباه أحد.
كانت أولى التجارب المشهورة في تطواف الأوروبيين رحلة الباحث الألماني أ. ي. سيتزن U. J. Seetzen (1767- 1811) الذي تنقل بين أرجاء المشرق العربي، فدخل من تركيا وزار حلب ومدناً سورية أخرى، وفلسطين، وتنكّر في زي شحّاذ، وطاف حول البحر الميت، ثم زار الأردن وسيناء والقاهرة والفيوم، ومن مصر إلى جدة فمكة، حيث اعتنق الإسلام واتخذ اسم «موسى الحكيم»، ثم زار المدينة فعدن، وكان في طريقه إلى مسقط عندما مات مسموماً في تعز. وقد تميزت تجربة سيتزن بما كان يرسله في ترحاله من نقوش ينسخها عن مصادرها ويرسلها إلى أوروبا.
في السنوات والعقود التالية استكشف المواقع الأثرية ونقّب فيها عشرات من المستكشفين ونسخوا آلاف النقوش من مختلف المناطق، ولم تكن هذه التجارب «بريئة» علمياً، بل كانت في أساسها جزءاً من مهام رسمية كُلّف بها أصحابها لإنجاز أهداف محدّدة. من بينهم، وهو أشهرهم، اليهودي الفرنسي ذو الأصل التركي جوزيف هاليفي (1827- 1917) الذي نسخ زهاء 800 نقشاً عام 1870، وكان قد أرسله «الاتحاد الإسرائيلي العالمي» في رحلة إلى الحبشة (أثيوبيا) للإطلاع على أحوال يهود الفلاشا وتقديم تقرير عنهم، وبنجاح مهمته هذه استعان به المعهد الفرنسي فأرسله إلى اليمن في مهمة جمع ودراسة النقوش العربية القديمة، وقد أصبح بتجاربه تلك أحد أهم المتخصصين في اللغات والحضارات الشرقية (العربية القديمة)، واستقر به الأمر استاذاً للدراسات الشرقية في جامعة السوربون.
من أسماء رواد الاستكشاف الأوروبي أيضاً كان هناك النمساوي ذو الأصل اليهودي ادوارد غلاسر Eduard Glaser (1855- 1908) الذي جمع آلافاً من النقوش في أربع رحلات إلى اليمن بين 1882 و1894، وهي ما زالت محفوظة حتى اليوم في متحف تاريخ الفنون بفيينا. وكانت تجمعه علاقة وثيقة بالصهيوني ثيودور هرتزل، غير أن غلاسر كان يعمل من أجل مشروع استيطاني آخر وهو توطين اليهود في جنوب شبه الجزيرة العربية، وإلى جانب المحاضرات التي ألقاها حول رحلاته فقد نشر عدة مقالات حول النقوش العربية القديمة، موظفاً إياها لمشروعه الرئيسي، مثل: «الممالك اليهودية في شبه الجزيرة العربية» عام 1890 ، و«بلقيس، الملكة الحميرية اليهودية، أسطورية أم تاريخية؟» عام 1891، و«الإمبراطورية اليهودية» Das jüdische reich، و«أرض الذهب السليمانية: أوفير» Das salomonische Goldland ophir ، وقد حاول غلاسر أن يدعم مشروعه الاستيطاني بدلالات الآثار والنقوش العربية التي جمعها من اليمن، غير أن بحثه انتهى عبثاً دون أن يعثر على شيء.
في النصف الأول من القرن العشرين برزت تجارب مستكشفين آخرين، مثل هيرمان فون فيسمان Hermann von Wissmann (1895 – 1979)، وهو ابن السفاح ومجرم الحرب هيرمان فون فيسمان (يحمل الاسم نفسه).3 وقد سافر فيسمان بين 1931 و1939، مع القنصل الهولندي في جدّة دانييل فان دير مولين Daniel van der Meulen (1894-1989)، إلى اليمن، وكان من المؤيدين للرأي الذي يقول ببداية مملكة سبأ في القرن الثامن ق.م. وقد طاف بأرجاء جنوب الجزيرة العربية، وترك عدة أبحاث، مثل: «مساهمات في الجغرافيا التاريخية لجنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام» (1953)، «تاريخ مملكة سبأ وحملة إيليوس غالوس» (1976)، «دراسات عن تاريخ وأقاليم جنوب شبه الجزيرة العربية القديم» (1964). «أرض البخور» (1977)، «قصة سبأ: إمبراطورية السبئيين العظمى حتى نهايتها في أوائل القرن الرابع ق.م.» (1982).
قبل نهاية النص الأول من القرن العشرين كانت الجامعات العربية قد بدأت تولي اهتمامها بنقوش جنوب الجزيرة العربية، وكانت بعثة الجامعة المصرية أول بعثات البحث العلمي التي أوفدتها كليتا الآداب والعلوم بالجامعة المصرية إلى جنوب بلاد العرب في عام 1936م، واستغرقت حوالي سبعة أشهر، وكانت برئاسة سليمان أحمد الحزين،4 ومشاركة خليل يحيى نامي ونصر شكري، ومحمد توفيق الدسوقي. «وكان لهذه البعثة العلمية غرضان أساسيان، الأول: إجراء بعض البحوث العلمية الخاصة بالجيولوجيا والتاريخ، والآثار القديمة، ودراسة الأجناس (الانثروبولوجيا)، وعاداتها ولهجاتها. والآخر تمكين أواصر الصلات الثقافية بين مصر وحضرموت، وتعريف أهل حضرموت ببعض نواحي النهضة المصرية الحديثة».5 وغير بعيد عن ذلك كما جا في تقرير البعثة المصرية: «توجهت بعثة أثرية بريطانية إلى حضرموت، وقامت بأعمال تنقيبية عامي 1937- 1938م في وادي عمد منطقة حريضة (م ذ ب م) القديمة، وكانت البعثة بقيادة كاتن تومبسون عالمة الآثار وزميلتها الجيولوجية أ. غاردنر والمؤرخة فرايا ستارك صاحبة المؤلفات العديدة عن حضرموت، ولها الفضل في العثور على النقش اليزني (RES 5080) المتضمن معلومات عن أعمال الري بأودية حضرموت».6
تجدّد الترحال إلى اليمن عام 1947 ، فقام الآثاري المصري أحمد فخري (1905- 1973) برحلة جديدة بين شهري مارس ومايو، وقد دوّن تفاصيل هذه الرحلة في كتابه «رحلة أثرية إلى اليمن» الذي أصدره باللغة الإنجليزية، ولم تقع ترجمته حتى 1988 بعد قرار بذلك من وزارة الإعلام والثقافة.7
في بداية النصف الثاني من القرن العشرين أرسلت “المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان” فريقاً علمياً ضم و. ف. ألبريت W.F. Albright وأ.م. هونيمان A.M. Honeyman و أ. جام A. Jamme ، وآخرين، للقيام بأعمال الاستكشاف والتنقيب ونسخ النقوش، غير أن انتظام هذه الأعمال “شهد تطوراً كبيراً بعد أن نالت اليمن الاستقلال، إذ أقامت فرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي، ودول أخرى، مركز علمية دائمة في صنعاء وعدن لتمكين الباحثين من العمل بدون انقطاع بالتعاون مع زملائهم في الجامعات والمؤسسات العلمية اليمنية”.8

هوامش وتعليقات:
- اكتشف بمنطقة حائل نقش يعود إلى الملك البابلي نبونائيد على إحدى الصخور البازلتية ويصوّر الملك ممسكاً بصولجانه وأمامه عدد من الرموز الدينية، إضافة إلى نص مسماري يصل العدد التقريبي لسطوره إلى 26 سطراً، ويعود تأريخ النقش إلى منتصف القرن السادس ق.م. ↩︎
- اكتشف أول نقش هيروغليفي في الجزيرة العربية في منطقة تيماء شمال السعودية، يتضمن خرطوشاً للملك رمسيس الثالث الذي حكم مصر 1192 – 1160 ق.م. وقد كانت تيماء آنذاك واحدة من المدن الرئيسية على طريق التجارة بين وادي النيل وبلاد الرافدين. ↩︎
- قاد فيسمان الأب عام 1888 حملة عسكرية لقمع الثورة الشعبية في شرق أفريقيا ضد وجود الألمان، وكانت بقيادة البشير بن سالم الحارثي الذي وحّد العرب والقبائل الأفريقية ضد الألمان، وجنّد فيسمان وحدات من المرتزقة الأفارقة وجنود سابقين مما كان يعرف الجيش المصري-الإنجليزي، مع دعم من البحرية البريطانية، وسيطر على دار السلام وتانغا وبنغاني والشريط الساحلي، وألقي القبض على قائد الثورة الحارثي الذي نفّذ فيه حكماً بالإعدام شنقاً في ديسمبر 1889. كان فيسمان مجرماً سفاحاً استخدم أكثر الأساليب وحشيةً في قمع المقاومة، ونهب القرى والمدن، وأحرق المحاصيل، وأجبر الأسرى على أعمال السخرة والعبودية الجنسية. وعندما عاد إلى ألمانيا استُقبل استقبال الأبطال، ثم عُيّن مفوضاً للرايخ في ما أُطلق عليه «شرق أفريقيا الألمانية» عام 1895، لكنه عاد إلى ألمانيا في السنة التالية بسبب حالة ابنه الوليد الصحية، وهناك أصبح محاضراً ومؤلفاً معروفاً حتى موته عام 1905 بعد أن أطلق النار على نفسه خطاً في حادثة صيد. ↩︎
- سليمان أحمد حزين (1909- 1999) جغرافي وأكاديمي وكاتب مصري، أسس جامعة أسيوط عام 1955، وشغل منصب وزير الثقافة سنة 1965، واختير رئيساً للاتحاد الجغرافي العربي، ثم عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1978. من مؤلفاته: «أرض العروبة رؤية حضارية في المكان والزمان»، «حضارة مصر أرض الكنانة»، «مستقبل الثقافة في مصر العربية» ↩︎
- محمد بن هاوي باوزير، من أرشيف الجامعة المصرية في ثلاثينات القرن، مجلة حضرموت الثقافية، العدد 17، سبتمبر 2020. ↩︎
- من تقرير البعثة المصرية الذي أعدّه سليمان حزين. انظر باوزير، المرجع السابق. ↩︎
- مما تركه أحمد فخري، شيخ الآثاريين المصريين، من مؤلفات: «الأهرامات المصرية» و «مصر الفرعونية» و«الواحات البحرية» و«واحة سيوة» و«دراسات في تاريخ الشرق القديم» و«بين آثار العالم العربي» و«اليمن، ماضيها وحاضرها». ↩︎
- رفعت هزيم، العربية في جنوب الجزيرة العربية حتى ظهور الإسلام، الحلقة الأولى، نقوش المسند. مجلة مجمع اللغة العربية، المجلد 88، الجزء 2. (ص. 323 – 348)، دمشق، 2015. ↩︎